فصل: مسير الروم إلى بلاد الجزيرة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» **


  أخبار أبي ثعلب مع إخوته بالموصل

كان لناصر الدولة بن حمدان زوجة تسمى فاطمة بنت أحمد الكردية وهـي أم أبـي ثعلـب وهي التي دبرت مع ابنها أبي ثعلب على أبيه فلما حبس ناصر الدولة كاتب ابنه حمدان يستدعيـه ليخلصـه ممـا هـو فيـه‏.‏ وظفـر أبـو ثعلـب بالكتـاب فنقـل أباه إلى قلعة كواشي واتصل ذلك بحمـدان وكـان قـد سـار عنـد وفـاة عمـه سيـف الدولـة مـن الرحبة إلى الرقة فملكها‏.‏ ولما اتصل به شـأن الكتـاب سـار إلـى نصيبيـن وجمع الجموع وبعث إلى إخوته في الإفراج عن أبيهم فسار أبو ثعلب لحربه وانهزم حمدان قبل اللقاء للرقة فحاصره أبو ثعلب أشهراً‏.‏ ثم اصطلحا وعاد كل منهمـا إلـى مكانـه‏.‏ ثـم مـات ناصـر الدولـة فـي محبسـه سنـة ثمـان وخمسيـن ودفـن بالموصـل‏.‏ وبعث أبو ثعلب أخاه أبا البركات إلى حمدان بالرحبة فافتـرق عنـه أصحابـه وقصـد العـراق مستجيـرا ببختيار فدخل بغداد في شهر رمضان من سنته وحمل إليه الهدايا‏.‏ وبعـث بختيـار إلـى أبـي ثعلـب النقيـب أبـا أحمد والد الشريف الرضي في الصلح مع أخيه حمدان فصالحه وعاد إلى الرحبة منتصف سنة تسع وخمسين‏.‏ وفارقه أبو البركات ثم استقدمه أبو ثعلب فامتنع من القدوم عليه فبعث إليه أخاه أبا البركات ثانياً في العساكر فخرج حمدان إلى البرية وترك الرحبة فملكها أبو البركات واستعمل عليها‏.‏ وسار إلى الرقـة ثـم إلـى عرابـان‏.‏ وخالفـه حمـدان إلـى الرحبة فكبسها وقتل أصحاب أبي ثعلب بها فرجع إليه أبو البركات وتقاتلا فضرب أبا البركات على رأسه فشجه ثم ألقاه إلى الأرض وأسره ومات من يومه‏.‏ وحمل إلى الموصل فدفن بها عند أبيه‏.‏ وجهز أبو ثعلب إلى حمدان وقدم أخاه أبا فراس محمداً إلى نصيبين ثم عزله عنها لأنه داخل حمدان ومالأه عليه فاستدعاه وقبض عليه وحبسه بقلعة ملاشي من بلاد الموصل فاستوحش أخواه إبراهيم والحسن ولحقا بأخيهما حمدان في شهر رمضان وساروا جميعاً إلى سنجار‏.‏ وسار أبو ثعلب من الموصل في أثرهم في شهر رمضان ستين وثلاثمائة فخاموا عن لقائه واستأمن إليه أخواه إبراهيم والحسن خديعة ومكراً فأمنهما ولم يعلم وتبعهما كثير من أصحاب حمـدان‏.‏ وعـاد حمـدان مـن سنجـار إلـى عرابـان وأطلـع أبـو ثعلـب علـى خديعـة أخويـه فهربـا منـه‏.‏ ثم استأمن الحسن ورجع إليه وكان حمدان أقام نائباً بالرحبة غلامه نجا فاستولـى علـى أموالـه وهـرب بهـا إلـي حـران وبهـا سلامـة البرقعيـدي مـن قبـل أبـي ثعلـب فرجـع حمـدان إلـى الرحبة‏.‏ وسار أبو ثعلب إلى قرقيسيا وبعث العساكر إلى الرحبة فعبروا الفرات واستولوا عليها ونجا حمدان بنفسه ولحـق بسنجـار مستجيـراً بـه ومعـه أخـوه إبراهيـم فأكرمهمـا ووصلهمـا وأقامـا عنـده‏.‏ ورجع أبو ثعلب إلى الموصل وذلك كله آخر سنة ستين وثلاثمائة‏.‏

  خروج الروم إلي الجزيرة والشام

وفي سنة خمـس وثمانيـن دخـل ملـك الـروم الشـام فسـار فـي نواحيها ولم يجد من يدافعه فعاث في نواحي طرابلس وكان أهلها قد أخرجوا عاملهم إلى عرقة لسوء سيرته فنهب الروم أمواله ثم حاصر الروم عرقة فملكوها ونهبوها‏.‏ ثم قصدوا حمـص وقـد انتقـل أهلهـا عنهـا فأحرقوهـا ورجعوا إلى بلاد السواحل وملكوا منها ثمانية عشر بلدا واستباحوا عامة القرى وساروا في جميـع نواحـي الشـام ولا مدافـع لهم إلا أن بعض العرب كانوا يغيرون على أطرافهم‏.‏ ثم رجع ملك الروم مجمعاً حصار حلب وأنطاكية وبلغه استعدادهم فرحل عنهم إلى بلاده ومعه من السبي مائة ألف رأس‏.‏ وكان بحلب قرعويه مولى سيف الدولة فمانعهم وبعث ملك الروم سراياه إلى الجزيرة فبلغوا كفرتوثا وعاثوا في نواحيها ولم يكن من أبي ثعلب مدافعة لهم‏.‏ استبداد قرعويه بحلب كـان قرعويـه غلـام سيـف الدولـة وهـو الـذي أخـذ البيعة لابنه أبي المعالي بعد موته فلما كان سنة ثمان وخمسين انتقض على أبي المعالي وأخرجه من حلب واستبد بملكها‏.‏وسار أبو المعالي إلى حران فمنعه أهلها فسار إلى والدته بميافارقين وهي بنت سعيد بن حمدان أخت أبي فـراس‏.‏ ولحـق أصحابـه بأبـي ثعلب وبلغ أمه بميافارقين وهي بنت سعيد بن حمدان أخت أبي فراس أنه يريد القبض عليها فمنعته أياماً من الدخول حتى استوثقت لنفسها وأذنت له ولمن رضيته وأطلقت لهم الأرزاق ومنعت الباقين وسار أبو المعالي لقتـال قرعويـه بحلـب فامتنـع عليـه ثـم لحـق أبـو المعالـي بحمـاة وأقـام بها وبقيت الخطبة بحران له ولا والي عليهم من قبله فقدموا عليهم من يحكم بينهم‏.‏

  مسير أبي ثعلب من الموصل إلى ميافارقين

ولمـا سمـع أبـو ثعلـب بخـروج أبـي المعالـي مـن ميافارقين إلى حلب لقتال قرعويه سار إليها وامتنعت زوجـة سيـف الدولـة منـه واستقـر الأمـر بينهمـا علـى أن تحمـل إليـه مائتي ألف درهم‏.‏ ثم نمي إليها أنه يحاول على ملك البلد فكبسته ليلا ونالت من معسكره فبعث إليها يلاطفها فأعادت إليه بعض ما نهب وحملت إليه مائة ألف درهم وأطلقت الأسارى فرجع عنها‏.‏

  استيلاء الروم على أنطاكية ثم حلب وثم ملاذكرد

وفي سنة تسع وخمسين خرج الروم إلى أنطاكية فمـروا بحصـن الوفـاء بقربهـا وهـم نصـارى فحاصروهم واتفقوا على أن يرحلوا إلى أنطاكية فإذا نزل الروم عليها ثاروا من داخل‏.‏ وانتقـل أهـل الوفـاء ونزلـوا بجبل أنطاكية‏.‏ وجاء بعد شهرين أخو تقفور ملك الروم في أربعين ألفاً من جموع الروم ونازل أنطاكية فأخلى له أهل الوفاء السور من ناحيتهم وملكوا البلد وسبوا منهـا عشريـن ألفـاً‏.‏ ثـم أنفـذ ملـك الـروم جيشـاً كثيفاً إلى حلب وأبو المعالي بن سيف الدولة عليها يحاصرها ففارقها أبو المعالي وقصد البرية وملك الروم حلـب‏.‏ وتحصـن قرعويـه وأهـل البلـد بالقلعة فحاصروها مدة‏.‏ ثم ضربوا الهدنة بينهم على مال يحمله قرعويه وعلى أن الروم إذا أرادوا الميرة من قرى الفرات لا يمنعونهم منها‏.‏ ودخل في هذه الهدنة حمص وكفرطاب والمعرة وأفامية وشيزر وما بين ذلك من الحصون والقرى وأعطاهم رهنهم على ذلك الروم‏.‏ وأفرج الـروم عـن حلب‏.‏ وكان ملك الروم قد بعث جيشا إلى ملاذكرد من أعمال أرمينية فحاصروها وفتحوها عنوة‏.‏ ورعب أهل الثغور منهم في كل ناحية‏.‏ كان نقفور ملكاً بالقسطنطينية وهي البلاد التي بيد بني عثمان لهذا العهد وكان من يليها يسمى الدمشق‏.‏ وكان نقفور هذا شديداً على المسلمين وهو الذي أخذ حلب أيام سيف الدولة وملك طرسوس والمسينة وعين زربه‏.‏ وكان قتل الملك قبله وتزوج امرأته وكان له منها ابنـان فكفلهما نقفور وكان كثيرا ما يطرق بلاد المسلمين ويدوخها في ثغور الشام والجزيرة حتى هابه المسلمون وخافوه على بلادهم‏.‏ ثم أراد أن يجب ربيبيه ليقطع نسلهما ففرقت أمهما من ذلك وأرسلت إلى الدمشق بن الشميشق وداخلته في قتله‏.‏ وكان شديد الخوف من نقفور‏.‏ وهـذا كـان أبـوه مسلمـاً مـن أهـل طرسـوس يعرف باين العفاش تنصر ولحق بالقسطنطينية‏.‏ ولم يزل يترقـى فـي الأطـوار إلى أن نال من الملك ما ناله‏.‏ وهذه غلطة ينبغي للعقلاء أن يتنزهوا عنها ولا ينـال الملـك من كان عريقاً في السوقة وفقيداً للعصابة بالكلية وبعيداً عن نسب أهل الدولة فقد تقدم من ذلك في مقدمه الكتاب ما فيه كفاية‏.‏

  استيلاء أبي ثعلب على حران

وفـي منتصـف سنـة تسـع وخمسيـن سار أبو ثعلب إلى حران وحاصرها نحواً من شهر ثم جنح أهلهـا إلـى مصالحتـه واضطربـوا فـي ذلك ثم توافقوا عليه وخرجوا إلى أبي ثعلب وأعطوه الطاعة ودخل في إخوانه وأصحابه فصلى الجمعـة ورجـع إلـى معسكـره‏.‏ واستعمـل عليهـم سلامـة البرقعيدي وكان من أكابر أصحاب بني حمدان‏.‏ وبلغه الخبر بأن نميراً عاثوا في بلاد الموصل وقتلوا العامل ببرقعيد فأسرع العود‏.‏

  مصالحة قرعويه لأبي المعالي

قد تقدم لنا استبداد قرعويه بحلب سنة ثمان وخمسين وخروج أبي المعالى بن سيف الدولة منهـا وأنـه لحـق بأمـه بميافارقيـن‏.‏ ثـم رجـع لحصـار قرعويـه بحلب ثم رجع إلى حلب ونزل بها‏.‏ ثم وقع الإتفاق بينه وبين قرعويه على أن يخطب له بحلب ويخطبان جميعاً للمعز العلوي صاحب مصر‏.‏

  مسير الروم إلى بلاد الجزيرة

وفي سنة إحـدى وستيـن سـار الدمستـق فـي جمـوع الـروم إلـى الجزيـرة فأغار على الرها ونواحيها‏.‏ ثـم تنقـل فـي نواحـي الجزيـرة ثـم بلـغ نصيبيـن واستباحهـا ودوخهـا‏.‏ ثـم سـار فـي ديـار بكر ففعل فيها مثـل ذلـك‏.‏ ولـم يكـن لأبـي ثعلـب فـي مدافعتهـم أكثـر مـن حمـل المـال إليهـم وسـار جماعـة مـن أهل تلك البلاد إلى بغداد مستنفرين وجلسوا إلى الناس في المساجد والمشاهد يصفون ما جرى على المسلمين وخوفوهم عاقبة أمرهم فتقدمهم أهل بغداد إلى دار الطائع الخليفـة وأرادوا الهجـوم عليـه فأغلقـت دونهـم الأبواب فأعلنوا بشتمه ولحق آخرون من أهل بغداد ببختيار وهو بنواحي الكوفة يستغيثونه من الروم فوعدهم بالجهاد وأرسل إلى الحاجب سبكتكين يأمـره بالتجهيـز للغزو وأن يستنفر العامة‏.‏ وكتب إلى أبي ثعلب بن حمدان بإعداد الميرة والعلوفات والتجهيز وأنه عـازم علـى الغـزو‏.‏ ووقعـت بسبـب ذلـك فتنـة فـي بغـداد مـن قبـل اشتغـال العافـة بذلـك أدت إلـى القتل والنهب بين عصائب الفتيان والعيارين‏.‏

  أسر الدمستق وموته

ولما فعل الدمستق في ديار مضر والجزيرة ما فعل قوي طمعه في فتح آمد فسار إليـه أبـو ثعلـب وقدم أخاه أبا القاسم هبة الله واجتمعا على حرب الدمستق ولقياه في رمضان سنة اثنتين وستين‏.‏ وكانت الجولة في مضيق لا تتحرك فيه الخيل وكان الروم على غير أهبة فانهزمـوا‏.‏ وأخـذ الدمستـق أسيـراً فلـم يـزل محبوسـاً عنـد أبـي ثعلـب إلـى أن مـرض سنـة ثلاث وستين وبالغ في علاجه وجمع له الأطباء فلم ينتفع بذلك ومات‏.‏

  استيلاء بختيار بن معز الدولة على الموصل وما كان بينه وبين أبي ثعلب

قـد تقـدم لنـا مـا كـان بيـن أبـي ثعلـب وأخويـه حمدان وإبراهيم من الحروب وأنهما سارا إلى بختيار بن معز الدولة صريخين فوعدهما بالنصرة وشغل عن ذلك بما كان فيه فأبطأ عليهمـا أمـره وهـرب إبراهيـم ورجـع إلـى أخيـه أبـي ثعلـب فتحرك عزم بختيار على قصد الموصل وأغراه وزيره ابن بقية لتقصيره في خطابه فسار ووصل إلى الموصل في ربيع سنة ثلاث وستين ولحق أبو ثعلب بسنجار وأخلى الموصل من الميرة ومن الدواوين‏.‏ وخالف بختيار إلى بغداد ولم يحدث فيهـا حدثـاً مـن نهـب ولا غيـره وإنمـا قاتـل أهـل بغـداد فحدثـت فيهـا الفتنة بسبب ذلك بين عامتها‏.‏ واضطـرب أمرهـم وخصوصـاً الجانـب الغربـي‏.‏ وسمع بختيار بذلك فبعث في أثره وزيره ابن بقية وسبكتكيـن فدخـل ابـن بقية بغداد وأقام سبكتكين في الضاحية‏.‏ وتأخر أبو ثعلب عن بغداد وحاربه يسيراً‏.‏ ثم داخله فـي الانتقـاض واستيـلاء سبكتكيـن علـى الأمـر‏.‏ ثـم أقصـر سبكتكيـن عـن ذلـك وخـرج إليـه ابـن بقيـة وراسلـوا أبـا ثعلـب فـي الصلـح علـى مـال يضمنـه ويـرد علـى أخيه حمدان إقطاعه ما سوى مارديـن وكتبـوا بذلـك إلـى بختيـار‏.‏ وارتحـل أبـو ثعلـب إلـى الموصـل وأشار ابن بقية على سبكتكين باللحـاق ببختيـار فتقاعـد ثـم سار‏.‏ وارتحل بختيار عن الموصل بعد أن جهد منه أهل البلد بما نالهم من ظلمه وعسفه‏.‏ وطلب منه أبو ثعلب الإذن في لقب سلطاني وأن يحط عنه مـن الضمـان فأجابه وسار‏.‏ ثم بلغه في طريقه أن أبا ثعلب نقض وقتل بعضا من أصحاب بختيار عـادوا إلـى الموصـل لنقل أهاليهم فاستشاط بختيار واستدعى ابن بقية وسبكتكين في العساكر وعادوا جميعاً إلى الموصل‏.‏ وفارقها أبو ثعلب وبعث أصحابه بالاعتذار والحلف على إنكار ما بلغه فقبل وبعث الشريف أبا أحمد الموسوي لاستحلافه‏.‏ وتم الصلح ورجع بختيار إلى بغداد فجهز ابنته إلى أبي ثعلب وقد كان عقد له عليها من قبل‏.‏

  عود أبي المعالي بن سيف الدولة إلى حلب

قد تقدم لنا أن قرعويه مولى أبيه سيف الدولة كان تغلب عليه وأخرجه من حلب سنة سبع وخمسين وثلاثمائة فسار إلى والدته بميافارقين‏.‏ ثم إلى حماة فنزلها وكانت الروم قد أمنت حمـص وكثـر أهلهـا‏.‏ وكـان قرعويه قد استناب بحلب مولاه بكجور فقوي عليه وحبسه في قلعة حلب وملكها سنين فكتب أصحاب قرعوية إلى أبي المعالي واستدعـوه فسـار وحاصرهـا أربعة أشهر وملكها وأصلح أحوالها وازدادت عمارتها حتى انتقل إلى ولاية دمشق كما يذكر‏.‏

  استيلاء عضد الدولة بن بويه على الموصل وسائر ملوك بني حمدان

ولما ملك عضد الدولة بن ركن الدولة بن بويه بغداد وهزم بختيار ابن عمه معز الدولة سار بختيـار فـي الفـل إلـى الشـام ومعـه حمـدان بـن ناصـر الدولة أخو أبي ثعلب فحسن له قصد الموصل علـى الشـام وقـد كـان عضـد الدولـة عاهـده أن لا يتعـرض لأبـي ثعلـب لمـودة بينهمـا فنكـث ولما انتهى إلى تكريت أتته رسل أبي ثعلب بالصلح وأن يسير إليه بنفسه وعساكره ويعيده على ملك بغداد على أن يسلم إليه أخاه حمدان فسلمه إلى رسل أبي ثعلب فحبسه وسار بختيار إلى الحديثة ولقي أبا ثعلب وسار معه إلى العراق في عشرين ألف مقاتل‏.‏ وزحف نحوهمـا عضـد الدولـة والتقـوا بنواحـي تكريـت فـي شوال سنة ست وستين فهزمهما عضد الدولة وقتل بختيار ونجا أبو ثعلب إلى الموصل فاتبعه عضد الدولة وملك الموصل في ذي القعـدة وحمـل معـه الميـرة والعلوفـات للإقامة‏.‏ وبث السرايا في طلب أبي ثعلب ومعه المرزبان بن بختيار وأخواله أبو اسحق وظاهر ابنا معز الدولة ووالدتهم‏.‏ وسار لذلك أبو الوفاء ظاهر بن إسماعيل من أصحابه‏.‏ وسار حاجبه أبو ظاهر طغان إلى جزيـرة ابـن عمر ولحق أبو ثعلب بنصيبين‏.‏ ثم انتقل إلى ميافارقين فأقام بها‏.‏ وبلغه مسير أبي الوفـاء إليـه ففارقهـا إلـى تفليـس‏.‏ وجـاء أبو الوفاء إلى ميافارقين فامتنعت عليه فتركها وطلب أبا ثعلـب فخـرج مـن أرزن الـروم إلـى الحسينيـة مـن أعمـال الجزيـرة وصعد إلى قلعة كواشي وغيرها من قلاعـه‏.‏ ونقـل منهـا ذخيرتـه وعاد فعاد أبو الوفاء إلى ميافارقين وحاصرها واتصل بعضد الدولة مجيئـه إلـى القلـاع فسـار إليـه ولـم يحركـه واستأمن إليه كثير من أصحابه‏.‏ وعاد إلى الموصل وبعث قائـده طغـان إلـى تفليـس فهـرب منهـا أبـو ثعلب واتصل بملكهم المعروف بورد الرومي وكان منازعاً لملكهـم الأعظـم فـي الملـك فوصـل ورد يـده بيد أبي ثعلب وصاهره ليستعين به واتبعه في مسيره عسكر عضد الدولة وأدركوه فهزمهم وأثخن فيهم‏.‏ ونجا فلهم إلى حصن زياد ويسمى خرت برت‏.‏ وأرسل إلى ورد يستمده فاعتذر بما هو فيه ووعده بالنصر‏.‏ ثم انهزم ورد أمام ملك الروم فأيـس أبـو ثعلـب مـن نصـره‏.‏ وعاد إلى بلاد الإسلام ونزل بآمد حتى جاء خبر ميافارقين‏.‏ وكان أبـو الوفـاء لمـا رجـع مـن طلب أبي ثعلب حاصر ميافارقين والوالي عليها هزار مرد فضبط البلد ودافـع أبـا الوفـاء ثلاثـة أشهـر‏.‏ ثـم مـات وولـى أبو ثعلب مكانه مؤنساً من موالي الحمدانية ودس أبو الوفـاء إلـى بعـض أعيـان البلـد فاستمالـه فبعـث لـه في الناس رغبة‏.‏ وشعر بذلك مؤنس فلم يطق مخالفتهم فانقاد واستأمن وملـك أبـو الوفاء البلد وكان في أيام حصاره قد افتتح سائر حصونه فاستولى على سائر ديار بكـر وأمـن أصحـاب أبـي ثعلـب وأحسـن إليهـم ورجـع إلـى الموصـل‏.‏ وبلـغ الخبـر إلـى أبـي ثعلب منقلبه من دار الحرب فقصد الرحبة‏.‏ وبعث إلى عضد الدولة يستعطفه فشرط عليه المسير إليـه فامتنع‏.‏ ثـم استولـى عضد الدولة على ديار مضر وكان عليها من قبل أبي ثعلب سلامه البرقعيدي من كبار أصحاب بني حمدان‏.‏ وكان أبو المعالي بن سيف الدولة بعث إليها جيشاً من حلب فحاربوها وامتنعت عليهم وبعث أبو المعالي إلى عضد الدولة وعرض بنفسه عليه فبعـث عضد الدولة النقيب أبا أحمد الموسوي إلى سلامة البرقعيدي وتسلمها بعد حروب‏.‏ وأخذ لنفسه منها الرقة ورد باقيها على سعد الدولة فصارت له‏.‏ ثم استولى عضد الدولة على الرحبـة وتفـرع بعـد ذلـك لفتـح قلاعـه وحصونه‏.‏ واستولى على جميع أعماله واستخلف أبا الوفاء على الموصل ورجع إلى بغـداد فـي ذي القعـدة سنـة ثمـان وستيـن‏.‏ ثـم بعـث عضـد الدولـة جيشـاً إلـى الأكراد الهكارية من أعمال الموصل فحاصروهم حتـى استقامـوا وسلمـوا قلاعهـم ونزلـوا إلـى الموصل فحال الثلج بينهم وبين بلادهم فقتلهم قائد الجيش وصلبهم على جانبي طريق الموصل‏.‏

  مقتل أبي ثعلب بن حمدان

ولما أيس أبو ثعلب بن حمدان من إصلاح عضد الدولة والرجوع إلى ملكه بالموصل وسار إلى الشام وكان على دمشق قسام داعية العزيز العلوي غلب عليها بعد افتكين وقد تقدم ذلك وكيف ولي افتكين على دمشق‏.‏ فخاف قسام من أبي ثعلب ومنعه من دخول البلد فأقام بظاهرهـا وكاتـب العزيـز وجـاء الخبـر بأنـه يستقدمـه فرحـل إلى طبرية بعد مناوشة حرب بينه وبين قسـام‏.‏ وجـاء الفضـل قائـد العزيز لحصار قسام بدمشق وسر بأبي ثعلب ووعده عن العزيز بكل جميـل‏.‏ ثـم حدثـت الفتنـة بيـن دغفل وقسام وأخرجهم وانتصروا بأبي ثعلب فنزل بجوارهم مخافة دغفل والفضل القائد الذي يحاصر دمشق‏.‏ ثم ثـار أبـو ثعلـب فـي بنـي عقيـل إلـى الرملـة فـي محـرم سنـة تسـع وتسعيـن فاستـراب بـه الفضـل ودغفـل وجمعـوا لحربـه ففـر بنـو عقيـل عنـه وبقـي في سبعمائة من غلمانه وغلمان أبيه وولى منهزماً فلحقه الطلب فوقف يقاتل فضرب وأسر وحمل إلى دغفل وأراد الفضل حمله إلى العزيز فخاف دغفل أن يصطنعه كما فعل بافتكين فقتله وبعث الفضل بالـرأس إلـى مصـر‏.‏ وحمـل بنـو عقيـل أختـه جميلـة وزوجتـه بنـت سيـف الدولـة إلـى أبـي المعالـي بحلب فبعث بجميلة إلى الموصل وبعث بها أبو الوفاء إلى عضد الدولة ببغداد فاعتقلها‏.‏ وصول ورد المنازع لملك الروم إلى ديار بكر مستجيراً كان ملك الـروم أرمانـوس لمـا توفـي خلـف ولديـن صغيريـن وهمـا بسيـل وقسطنطيـن ونصـب أحدهمـا للملـك وعـاد حينئـذ الدمشـق يعفور من بلاد الإسلام بعد أن عاث في نواحيها وبالغ في النكاية فاجتمع إليه الروم ونصبوه للنيابة عن ابني أرمانوس فداخلت أمهما ابن الشميشق على الدمشقية وقبض على لاوون أخي دمشق وعلى ابنه ورديس بن لاوون واعتقلهما في بعض القلاع‏.‏ وسار إلى بلاد الشام وأعظم فيها النكاية‏.‏ ومر بطرابلس فحاصرها وكان لوالده الملك أخ خصـي وهـو يومئـذ وزيـر فوضـع علـى ابـن الشميشق من سقاه السم وأحس به من نفسه فأغذ السير إلى القسطنطينية فمات في طريقه‏.‏ وكان ورد بن منير من عظماء البطارقة في الأمر وصار أبا ثعلب بن حمدان واستجاش بالمسلمين من الثغور وقصد الروم ووالى عليهم الهزائم فخافه الملكان وأطلقا ورديس بن لاوون وبعثاه على الجيوش لقتال الورد فقاتله فانهزم ورد إلى ديار بكر سنة تسع وستين وثلاثمائة ونزل بظاهر ميافارقين وبعث أخاه إلى عضد الدولة مستنصراً به‏.‏ وبعث ملكا الروم بالقسطنطينية إلى عضد الدولة فاستمالاه فرجح جانبهما وأمر بالقبض على ورد وأصحابه فقبض عليه أبو علي التميمي عامل ديار بكر وعلى ولده وأخيـه وأصحابـه وأودعهـم السجـن بميافارقيـن ثـم بعثهـم إلـى بغـداد فحبسـوا بهـا إلـى أن أطلقهـم بهـاء الدولـة بن عضد الدولة سنة خمس وسبعين وشرط عليه إطلاق عدد من المسلمين وإسلام سبعة من الحصون برساتيقها وأن لا يتعرض لبلاد المسلمين ما عاش‏.‏ وجهزه فسار وملك في طريقه ملطية وقوي بما فيه وصالحه ورديس بن لاوون على أن يكون قسطنطينية وجانب الشمال من الخليج له وحاصر قسطنطينية وبها الملكان ابنا أرمانوس وهما بسيل وقسطنطين في ملكها وأقرا وردا على ما بيده قليلاً‏.‏ ثم مات وتقدم بسيل في الملك ودام عليه ملكه وحارب البلغار خمساً وثلاثين سنة وظفر بهم وجلاهم عن بلادهم وأسكنهم الروم‏.‏ قدمنا ولاية بكجور على حمص لأبي المعالي بن سيف الدولة وأنه عمرها وكان أهل دمشق ينتقلون إليها لما نالهم من جور قسام ومـا وقـع بهـا مـن الغـلاء والوبـاء وكـان بكجـور يحمـل الأقـوات مـن حمـص تقربـاً إلـى العزيـز صاحـب مصر وكاتبه في ولايته فوعده بذلك‏.‏ ثم استوحش مـن أبـي المعالـي سنـة ثلـاث وسبعيـن وأرسـل إلـى العزيـز يستنجـز وعـده فـي ولايـة دمشق فمنع الوزير بن كلس من ولايته ريبة به وكان بدمشق من قبل العزيز القائد بلكين بعثه فمنع الوزير بعد قسام وساء أثر ابن كلس في الدولة واجتمع الكتاميون بمصر على التوثب بابن كلس ودعته الضرورة لاستقدام بلكين من دمشق فأمر العزيز باستقدامه وولى بكجور مكانه فداخلها في رجب سنة ثلاث وسبعين وأساء السيرة فيها وعاث في أصحاب الوزير بن كلس وأقام على ذلك ستاً‏.‏ وعجز أهل دمشق منه وجهزت العساكر من مصر مع القائد منير الخادم وكوتب نـزال والـي طرابلس بمعاضدته فسار في العساكر وجمع بكجور عسكراً من العرب وغيرهم وخرج للقائه فهزمه منير واستأمن إليه بكجور على أن يرحل عن دمشق فأمنه ورحل إلى الرقة واستولى عليها وتسلم منير دمشق وأقام بكجور بالرقة واستولى على الرحبة وما يجاور الرقة وراسل بهـاء الدولـة بـن عضد الدولة بالطاعة وباد الكردي المتغلب على ديار بكر والموصل بالمسير إليه وأبـا المعالـي سعـد الدولـة صاحب حلب بالعود إلى طاعته على أن يقطعه حمص فلم يجبه أحد إلى شيء فأقام بالرقة يراسل موالي سعد الدولة أبي المعالي ويستميلهم في الغدر به فأجابوه وأخبـروه أن أبـا المعالـي مشغـول بلذاتـه فاستمد حينئذ العزيز فكتب إلى نزال بطرابلس وغيره من ولاة الشام أن يمدوه ويكونوا في تصرفه‏.‏ ودس إليهم عيسى بن نسطورس النصراني وزير العزيز في المباعدة عنه لعداوته مع ابن كلس الوزيـر قبلـه وتجديدهـا مع ابن منصور هذا فكتب نزال إلى بكجور يواعده بذلك في يوم معلوم وأخلفه وسار بكجور من الرقة وبلغ خبر مسيره إلى أبي المعالي فسار من حلب ومعه لؤلؤ الكبيـر مولـى أبيـه وكتـب إلى بكجور يستميله ويذكره الحقوق وأن يقطعه من الرقة إلى حمص فلم يقبل‏.‏ وكتب أبو المعالي إلى صاحب إنطاكية يستمده فأمده بجيش الروم وكتب إلى العرب الذين مع بكجور يرغبهم في الأموال والإقطاع فوعدوه خذلان بكجور عند اللقاء‏.‏ فلما التقى العسكران وشغل الناس بالحرب عطف العرب على سواد بكجور فنهبوه ولحقوا بأبي المعالي فاستمات بكجور وحمل على موقف أبي المعالي يريد وقد أزاله لؤلؤ عن موقفه ووقـف مكانـه خشيـة عليـه‏.‏ وحمـل ذلـك فلمـا انتهـى بكجـور لحملتـه بـرز إليه‏.‏ لؤلؤ وضربه فأثبته‏.‏ وأحـاط بـه أصحابـه فولـى منهزمـاً‏.‏ وجـاء بعضهـم إلـى أبـي المعالـي فشارطـه علـى تسليمه إليه فقبل شرطه وأحضره فقتله وسار إلى الرقة وبها سلامة الرشقي مولى بكجور وأولاده وأبو الحسن علي بن الحسين المغربي وزيره فاستأمنوا إليه فأمنهم ونزلوا عن الرقة فملكها واستكثر ما مع أولاد بكجور فقال له القاضي ابن أبي الحصين‏:‏ هو مالك وبكجور لا يملك شيئاً ولا حنث عليك‏.‏ فاستصفى مالهم أجمع وشفع فيهم العزيز فأساء عليه الرد وهرب الوزير المغربي إلى مشهد علي‏.‏

  خبر باد الكردي ومقتله علي الموصل

كان من الأكراد الحميدية بنواحي الموصل ومن رؤسائهم رجل يعرف بباد وقيل باد لقب له واسمـه أبـو عبـد اللـه الحسيـن بـن ذوشتـك وقيـل بـاد اسمـه وكنيتـه أبـو شجـاع بن ذوشتك‏.‏ وإنما أبو عبـد الله الحسين أخوه‏.‏ وكان له بأس وشدة وكان يخيف السابلة ويبذل ما تجمع له من النهب في عشائـره فكثـرت جموعـه‏.‏ ثـم سـار إلـى مدينـة أرمينيـة فملـك مدينـة أرجيـش‏.‏ ثـم رجـع إلـى ديـار بكـر فلمـا ملـك عضد الدولة الموصل حضر عنده في جملة الوفود وخافه على نفسه وأبعد في مذهبه وبلغ عضد الدولة أمره فلم يظفر به‏.‏ ولما هلك عضد الدولة سار باد إلى ديار بكر فملك آمد وميافارقين‏.‏ ثم ملك نصيبين فجهز صمصام الدولة العساكر إليه مع الحاجب أبي القاسم سعيد بن محمد فلقيه على خابور الحسينية من بلاد كواشي فانهزم الحاجب وعساكره وقتل كثير من الديلم‏.‏ ولحق الحاجب سعيد بالموصل وباد في أتباعه‏.‏ وثارت عامة الموصل بالحاجب لسوء سيرته فأخرجوه ودخل باد الموصل سنة ثلاث وسبعين وقوي أمره وسما إلى طلب بغداد‏.‏ وأهم صمصام الدولة أمره ونظر مع وزيره ابن سعدان في توجيه العساكر إليه وأنفـذ كبيـر القـواد زيـاد بـن شهـرا كونـه فتجهـز لحربـه وبالغـوا فـي مـدده وإزاحـة علله فلقيهم في صفر سنـة أربع وسبعين‏.‏ وانهزم باد وقتل كثير من أصحابه وأسر آخرون وطيف بهم في بغداد‏.‏ واستولى الديلم على الموصل وأرسل زياد القائد عسكراً إلى نصيبين فاختلفوا على مقدمهم‏.‏ وكتـب ابـن سعـدان وزيـر صمصام الدولة إلى أبي المعالي بن حمدان صاحب حلب يومئذ بولاية ديار بكر وإدخالها في عمله فسير إليه أبو المعالي عسكره إلى ديار بكر فلم يكن لهم طاقة بأصحاب باد فحاصروا ميافارقين أياماً ورجعوا إلى حلب‏.‏ وبعـث سعـد الحاجب من يتولى غدر باد فدخل عليه رجل في خيمته وضربه بالسيف على ساقه يظنها رأسه فنجا من الهلكة‏.‏ ثم بعث باد إلى زياد القائد وسعد الحاجب بالموصل بطلـب الصلح فأثمروا بينهم على أن تكون ديار بكر لباد والنصف من طور عبدين‏.‏ فخلصت ديار بكر لباد من يومئذ وانحدر زياد القائد إلى بغداد‏.‏ وأقام سعد الحاجب بالموصل إلي أن توفي سنة سبع وسبعين فطمع باد في الموصل وبعث إليها شرف الدولة بن بويه أبا نصر خواشاور في العساكر فزحف إليه باد وتأخر الممد عن أبي نصر فبعث عن العرب من بني عقيل وبني نمير لمدافعة باد وأقطعهم البلاد‏.‏ واستولى باد على طور عبدين آخر الجبال ولم يضجر وأرسل أخاه في عسكر لقتال العرب فقتل وانهزم عسكره وأقام باد قبالة خواشاده حتى جاء الخبر بموت شرف الدولة بن بويه فزحف خواشاده إلى الموصـل وقامـت العـرب بالصحراء وباد بالجبال‏.‏

  عود بني حمدان إلى الموصل ومقتل باد

كان أبو طاهر إبراهيم وأبو عبد الله الحسن ابنا ناصر الدولة بن حمدان قد لحقا بعد مهلك أخيهمـا أبـي ثعلـب بالعراق وكانا ببغداد وأستقرا في خدمة شرف الدولة بن عضد الدولة فلما تولى شرف الدولة وخواشاده في الموصل بعثهما إليها ثم أنكر ذلك عليه أصحابه فكتب إلى خواشاده عامل الموصل فمنعهما فكتب إليهما بالرجوع عنه فلم يجيبا وأغذا السير إلى الموصل حتـى نـزلا بظاهرهـا‏.‏ وثـار أهـل الموصـل بالديلـم والأتـراك الذيـن عندهـم وخرجوا إلى بني حمدان‏.‏ وزحـف الديلـم لقتالهـم فانهزمـوا وقتـل منهـم خلـق وامتنـع باقيهـم بدار الإمارة‏.‏ وأراد أهل الموصل استلحامهم فمنعهم بنو حمدان وأخرجوا خواشاده ومن معه على الأمان إلى بغداد وملكوا الموصل‏.‏ وتسايل إليهم العرب من كل ناحية‏.‏ وبلغ الخبر إلى باد وهو بديار بكر بملك الموصل وجمع فاجتمع إليه الأكراد البثنوية أصحاب قلعة فسك وكان جمعهم كثيراً‏.‏ واستمال أهـل الموصـل بكتبـه فأجابـه بعضهـم فسـار ونزل على الموصل وبعث أبو طاهر وأبو عبد الله ابنا حمـدان إلـى أبـي عبـد اللـه محمـد بـن المسيـب أميـر بنـي عقيـل يستنصرانـه‏.‏ وشـرط عليهمـا جزيرة ابن عمر ونصيبين فقبلا شرطه‏.‏ وسار أبو عبد الله صريخاً وأقام أخوه أبو طاهر بالموصل وباد يحاصره‏.‏ وزحف أبو الرواد في قومه مع أبي عبد الله بن حمدان وعبروا دجلة عند بدر وجاؤوا إلى باد من خلفه‏.‏ وخرج أبو طاهر والحمدانية من أمامه والتحم القتال ونكب بباد فرسه فوقع طريحاً ولم يطق الركوب وجهض العدو عنه أصحابه فتركوه فقتله بعض العرب وحمل رأسه إلى بني حمدان ورجعوا ظافرين إلى الموصل وذلك سنة ثمانين‏.‏

  مهلك أبي طاهر بن حمدان واستيلاء بني عقيل على الموصل

لمـا هلـك بـاد طمـع أبـو طاهـر وأبـو عبـد اللـه ابنـا حمـدان فـي استرجاع ديار بكر وكان أبو علي بن مروان الكردي وهو ابن أخت باد قد خلص من المعركة ولحق بحصن كيفا وبه أهل باد وماله وهـو مـن أمنـع المعاقـل فتـزوج امـرأة خالـه واستولـى علـى مالـه وعلى الحصن‏.‏ وسار في ديار فملك مـا كـان لخالـه فيهـا تليـدا‏.‏ وبينما هو يحاصر ميافارقين زحف إليه أبو طاهر وأبو عبد الله ابنا حمدان يحاربانه فهزمهما وأسر عبد الله منهما‏.‏ ثم أطلقه ولحق بأخيه أبي طاهر وهو يحاصر آمد فزحفا لقتال ابن مروان فهزمهما وأسر أبا عبد الله ثانية إلى أن شفع فيه خليفة مصر فأطلقـه واستعمله الخليفة على حلب إلى أن هلك‏.‏ وأما أبو طاهر فلحق بنصيبين في فل من أصحابه وبها أبو الدرداء محمد بن المسيب أميـر بنـي عقيـل‏.‏ وسـار إلـى الموصـل فملكهـا وأعمالها وبعث إلى بهاء الدولة أن ينفذ إليه عاملا من قبله فبعث إليها قائداً كان تصرفه عن أبي الدرداء ولم يكن له من الأمر شيء إلى أن استبد أبو الدرداء واستغنـى عـن العامـل وانقرض ملك بني حمدان من الموصل والبقاء لله‏.‏ ملك سعد الدولة في حمدان بحلب وولاية ابنه أبي الفضائل واستبداد لؤلؤ عليه‏:‏ ولما هزم سعد الدولة مولاه بكجور وقتله حين سار إليه من الرقة رجع إلى حلب فأصابه فالج وهلك سنة إحدى وثمانين‏.‏ وكان مولاه لؤلؤ كبير دولته فنصب ابنه أبا الفضائل وأخذ له العهد على الأجناد وتراجعت إليهم العساكر‏.‏ وبلغ الخبر أبا الحسن المغربي وهو بمشهد علي فسار إلى العزيز بمصر وأغراه بملك البلد واعتصم أبو الفضائل ولؤلؤ بالقلعة وبعث أبو الفضائل ولؤلؤ إلى ملك الروم يستنجدانه وكان مشغولا بقتال البلغار فأرسل إلى نائبه بأنطاكية أن يسير إليهم فسار في خمسين ألفا ونزل جسر الحديد على وادي العاصي فنفر إليه منجوتكين في عساكر المسلمين وهزم الروم إلى إنطاكية واتبعهم فنهب بلادها وقراها وأحرقهـا‏.‏ ونـزل أبـو الفضائل ولؤلؤ من القلعـة إلـى مدينـة حلـب فنقـل مـا فيهـا مـن الغلـال وأحـرق الباقـي‏.‏ وعـاد منجوتكين إلى حصارهم بحلب‏.‏ وبعـث لؤلـؤ إلـى أبـي الحسـن المغربـي فـي الوساطـة لهم في الصلح فصالحهم منجوتكين ورحل إلى دمشـق حجرا من الحرب وتعذر الأقوات‏.‏ ولم يراجع العزيز في ذلك فغضب العزيز وكتب إليه يوبخه ويأمره بالعود لحصار حلب فعاد وأقام عليها ثلاثة عشر شهراً‏.‏ فبعث أبو الفضائل ولؤلؤ مراسلة لملك الروم وحرضوه على إنطاكية وكان قد توسط بلاد البلغار فرجع عنها وأجفل في الحشد ورجع إلى حلب‏.‏ وبلغ الخبر إلى منجوتكين فأجفل عنها بعد أن أحرق خيامه وهدم مبانيـه وجاء ملك الروم‏.‏ وخرج إليه أبو الفضائل ولؤلؤ فشكرا له ورجعا ورحل ملك الروم إلى الشام ففتح حمص وشيزر ونهبهما‏.‏ وحاصر طرابلس فامتنعت عليه فأقام بها أربعين ليلة ثم رحل عائداً إلى بلده‏.‏ انقراض بني حمدان بحلب واستيلاء بني كلاب عليها ثم إن أبا نصر لؤلؤاً مولى سيف الدولة عزل أبا الفضائل مولاه بحلب وأخذ البلد منه ومحا دعوة العباسية وخطب للحاكم العلوي بمصر ولقبه مرتضى الدولة‏.‏ ثم فسد حاله معه فطمع فيه بنو كلاب بن ربيعة وأميرهم يومئذ صالح بن مرداس وتقبض لؤلؤ على جماعة منهم دخلوا إلى حلب كان فيهم صالح فاعتقله مدة وضيق عليه‏.‏ ثم فر من محبسه ونجا إلى أهله وزحـف إلـى حلـب ولؤلـؤ فيهـا وكانـت بينه وبينهم حروب هزمه صالح آخرها وأسوه سنة ستين وأربعمائـة‏.‏ وخلـص أخـوه نجـا إلـى حلـب فحفظها وبعث إلى صالح في فدية أخيه وشرط له ما شاء فأطلقه ورجع إلى حلب واتهم مولاه فتحاً وكان نائبه على القلعة بالمداخلة في هزيمته فأجمع نكبته‏.‏ ونمي إليه الخبر فكاتب الحاكم العلوي وأظهر دعوته وانتقض على لؤلؤ فأقطعه الحاكـم صيـدا وبيـروت ولحـق لؤلـؤ بالـروم فـي إنطاكيـة فأقـام عندهـم‏.‏ ولحق فتح بصيدا‏.‏ واستعمل الحاكـم علـى حلـب مـن قبلـه وانقرض أمر بني حمدان من الشام والجزيرة أجمع‏.‏ وبقيت حلب في ملك العبيديين‏.‏ ثم غلب عليها صالح بن مرداس الكلابي وكانت بها دولة له ولقومه وورثها عنه بنوه كما يذكر في أخبارهم‏.‏

  الخبر عن دولة بني عقيل بالموصل وابتداء أمرهم بأبي الدرداء

وتصاريف أحوالهم كان بنو عقيل وبنو كلاب وبنو نمير وبنو خفاجة وكلهم من عامر بن صعصعة وبنو طيء من كهلان قد انتشروا ما بين الجزيرة والشام في عدوة الفرات‏.‏ وكانوا كالرعايا لبني حمدان يؤدون إليهم الأتاوات وينفرون معهم في الحروب‏.‏ ثم استفحل أمرهم عند فشل دولة بني حمدان وسـاروا إلـى ملـك البلـاد‏.‏ ولمـا انهـزم أبـو طاهـر بـن حمـدان أمام أبي علي بن مروان بديار بكر كما قدمنـاه سنـة ثمانيـن ولحـق بنصيبيـن وقـد استولـى عليها أبو الدرداء محمد بن المسيب بن رافع بن مقلد بن جعفر بن عمر بن مهند أمير بني عقيل ابن كعب بن ربيعة بن عامر فقتل أبا طاهر وأصحابه وسار إلى الموصل فملكها‏.‏ وبعث إلى بهاء الدولة بن بويه المستبد على الخليفة بالعراق في أن يبعث عاملا من قبله والحكم راجع لأبي الدرداء‏.‏ وأقام على ذلك سنتين‏.‏ وبعـث بهـاء الدولـة سنـة اثنتيـن وثمانيـن عساكـره إلـى الموصـل مـع أبي جعفر الحجاج بن هرمز فغلب عليها أبا الدرداء وملكها‏.‏ وزحف لحربه أبو الدرداء في قومه ومن اجتمع إليه من العرب فكانت بينهم حروب ووقائع وكان الظفر فيها للديلم‏.‏ مهلك أبي الدرداء وولاية أخيه المقلد ثـم مات أبو الدرداء سنة ست وثمانين وولي إمارة بني عقيل مكانه أخوه علي بعد أن تطاول إليهـا أخوهمـا المقلـد بـن المسيـب وامتنـع بنـو عقيـل لـأن عليـاً كان أسن منه فصرف المقلد وجهه إلى ملك الموصل واستمال الديلم الذين فيها مع أبي جعفر بن هرمز فمالوا إليه وكتب إلى بهاء الدولـة أن يضمنـه الموصـل بألفـي ألـف درهـم كـل سنـة‏.‏ ثم لمظهر لأخيه علي وقومه أن بهاء الدولة قد ولاه واستمدهم فساروا معه ونزلوا على الموصل وخرج إلى المقلد من كان استماله من الديلم واستأمن إليهم أبو جعفر قائد الديلم فأمنوه وركب السفن إلى بغداد واتبعوه فلم يظفروا منه بشيء وتملك المقلد ملك الموصل‏.‏

  فتنة المقلد مع بهاء الدولة في بويه

كان المقلد يتولى حماية غربي الفرات وكان له غربي بغداد نائب فيه تهور وجرى بينه وبين أصحاب بهاء الدولة مشاجرة‏.‏ وكان بهاء الدولة مشغولا بفتنة أخيه فكتب نائب المقلد إليه يشكو من أصحاب بهاء الدولة فجاء في العساكر وأوقع بهم ومد يده إلى جباية الأموال‏.‏ وخـرج نائـب بهـاء الدولـة ببغداد وهو أبو علي بن إسماعيل عن ضمان القصر وغيره فغالط بهاء الدولـة وأنفذ أبا جعفر الحجاج بن هرمز للقبض على أبي علي بن إسماعيل ومصالحة المقلد بن المسيـب فصالحـه علـى أن يحمـل إلى بهاء الدولة عشرة آلاف دينار ويخطب له ولأبي جعفر بعده ويأخـذ مـن البلـاد رسـم الحمايـة وأن يخلـع علـى المقلـد الخلـع السلطانيـة ويلقـب حسـام الدولـة ويقطع الموصل والكوفة والقصر والجامعين وجلس له ولأبي جعفر القادر بالله فاستولى على البلاد وقصده الأعيان والأمائل وعظم قدره‏.‏ وقبض أبو جعفر على أبي علي بن إسماعيل ثم هرب ولحق بمهذب الدولة‏.‏ القبض على علي بن المسيب كـان المقلـد بـن المسيـب قـد وقعـت المشاجـرة بيـن أصحابه وأصحاب أخيه في الموصل قبل مسيره إلـى العـراق فلمـا عـاد إلـى الموصل أجمع الانتقام من أصحاب أخيه‏.‏ ثم نوى أنه لا يمكنه ذلك مع أخيه فأعمل الحيلة في قبض أخيه وأحضر عسكره من الديلم والأكراد‏.‏ وورى بقصر دقوقا واستحلفهم على الطاعة‏.‏ ثم نقب دار أخيه وكانت ملاصقة له‏.‏ ودخـل إليـه فقبـض عليـه وحبسه وبعث زوجته وولديه قرواش وبحران إلى تكريت‏.‏ واستدعى رؤساء العرب وخلع عليهم وأقام فيهم العطاء فاجتمعت له زهاء ألفي فارس وخرجت زوجة أخيه بولديها إلى أخيها الحسن بن المسيب وكانت أحياؤه قريباً من تكريت فاستجاش العرب على المقلد وسار إليـه فـي عشـرة آلـاف فخـرج المقلـد عـن الموصـل واستشـار النـاس فـي محاربـة أخيـه‏.‏ فأشـار رافـع بن محمـد بـن معـز بالحـرب وأشـار أخـوه غريـب بـن محمد بالموادعة وصلة الرحم‏.‏ وبينما هو في ذلك إذ جـاءت أختـه رميلـة بنـت المسيب شافعة في أخيها علي فأطلقه ورد عليه ماله وتوادع الناس وعاد المقلد إلى الموصل وتجهز لقتال علي بن مزيد الأسدي بواسط لأنه كان مغضباً لأخيه الحسـن فلمـا قصد الحلة خالفه علي إلى الموصل فدخلها‏.‏ وعاد إليه المقلد وتقدمه أخوه الحسن مشفقاً عليه من كثرة جموع المقلد فأصلح ما بينهما ودخل المقلد إلى الموصل وأخواه معه‏.‏ ثم خـاف علـي فهـرب‏:‏ ثـم وقـع الصلـح بينهمـا على أن يكون أحدهما بالبلد‏.‏ ثم هرب علي فقصده المقلـد ومعـه بنو خفاجة فهرب إلى العراق واتبعه المقلد فلم يدركه ورجع عنه‏.‏ ثم سار المقلد إلـى بلد علي بن مزيد فدخله ثانية ولحق ابن مزيد بمهذب الدولة صاحب البطيحة فأصلح ما بينهما‏.‏

  استيلاء المقلد على دقوقا

ولما فرغ المقلد من شأن أخويه وابن مزيد وسار إلى دقوقا فملكها‏.‏ وكانت لنصرانيين قد استعبـدا أهلهـا وملكها من أيديهما جبريل بن محمد من شجعان بغداد أعانه عليها مهذب الدولة صاحـب البطيحـة وكـان مجاهـداً يحـب الغـزو فملكها وقبض على النصرانيين وعدل في البلد‏.‏ ثم ملكها المقلد من يده وملكها بعده محمد بن نحبان ثم بعده قرواش بن المقلد‏.‏ ثم انتقلت إلى فخر الملك أبي غالب فعاد جبريل واستجاش بموشك بن حكويه من أمراء الأكراد‏.‏ وغلب مقتل المقلد وولاية ابنه قرواش كـان للمقلـد مـوال مـن الأتـراك فهربوا منه واتبعهم فظفر بهم وقتل وقطع وأفحش في المثلة فخاف إخوانهم منه واغتنموا غفلته فقتلوه فيها بالأنبار سنة إحدى وسبعين‏.‏ وكان قد عظم شأنه وطمـع فـي ملـك بغـداد‏.‏ ولمـا قتـل كـان ولـده الأكبـر قرواش غائباً وكانت أمواله بالأنبار فخاف نائبه عبـد اللـه بن إبراهيم بن شارويه بادرة عمه الحسن وراسل أبا منصور بن قراد وكان بالسندية وقاسمـه فـي مختلـف المقلـد علـى أن يدافع الحسن إن ضمه فأجابه إلى ذلك وأرسل عبد الله إلى قـرواش يستحثـه فوصـل ووفـى لابـن قـراد بمـا عاهـده عليـه نائبـه عبـد الله وأقام ابن قراد عنده‏.‏ ثم إن الحسيـن بـن المسيـب جـاء إلـى مشايـخ بنـي عقيـل شاكيـاً ممـا فعله قرواش وابن قراد عنده فسعوا بينهم في الصلح واتفق الحسن وقرواش على الغدر بابن قراد وأن يسير أحدهما إلى الأخر متحاربيـن فـإذا تلاقيـا وقبضـا علـى ابـن قـراد ففعلا ذلك‏.‏ فلما تراءى الجمعان نمي الخبر إلى ابن قراد فهرب واتبعه قرواش والحسن ولم يدركاه ورجع قرواش إلى بيوته فأخذها بما فيها من الأموال فوجه الأموال إلى أن أخذها أبو جعفر الحجاج بن هرمز‏.‏

  فتنة قرواش مع بهاء الدولة بن بويه

ولمـا كانـت سنـة اثنتيـن وتسعيـن بعـث قـرواش بـن المقلـد جمعـاً من بني عقيل إلى المدائن فحصروها فبعث أبو جعفر بن الحجاج بن هرمز نائب بهاء الدولة ببغداد عسكراً إليهم فدفعوهم عنها فاجتمعت عقيل وبنو أسد وأميرهم علي بن مزيد‏.‏ وخرج أبو جعفر إليهم واستجاش بخفاجة وأحضرهم من الشام فانهزم واستبيح عسكره وقتل وأسر من الأتراك والديلم كثير‏.‏ ثم جمع العساكر ثانيا ولقيهم بنواحي الكوفة فهزمهم وقتل وأسر وسار إلى أحياء بني مزيد ونهب منهـا مـا لا يقـدر قـدره‏.‏ ثـم سـار قـرواش إلـى الكوفـة سنـة سبـع وتسعيـن وكانـت لأبـي علي بن ثمال الخفاجي وكان غائباً عنها فدخل قرواش الكوفة وصادرهم‏.‏ ثم قتل أبو علـي سنـة تسـع وتسعيـن وكان الحاكم صاحب مصر قد ولاه الرحبة فسار إليها‏.‏ وخرج إليه عيسى بن خلاط العقيلـي فقتلـه وملكهـا‏.‏ ثـم ملكهـا بعـده غيـره إلـى أن ولـي أمرهـا صالـح بن مرداس الكلابي صاحب حلب‏.‏

  قبض قرواش على وزرائه

كـان معتمـد الدولـة قـرواش بـن المقلـد قـد استـوزره أبا القاسم الحسين بن علي بن الحسين المغربي وكان من خبره أن أباه من أصحاب سيف الدولة بن حمدان فذهب عنه إلى مصر وولي بها الأعمـال‏.‏ وولـد ابنـه أبـا القاسـم ونشـأ هنالك‏.‏ ثم قتله الحاكم فلحق أبو القاسم بحسان بن مفرج بن الجراح الطائي بالشام وأغراه بالإنتقاض والبيعة لأبي الفتوح الحسن بن جعفر صاحب مكة ففعـل ذلـك‏.‏ ولـم يتم أمر أبي الفتوح ورجع إلى مكة‏.‏ ولحق أبو القاسم المغربي بالعراق واتصل بفخر الملك فارتاب به القادر لانتسابه إلى العلوية فأبعده فخر الملك فقصد قرواش بالموصل فاستوزره‏.‏ ثم قبض عليه سنة إحدى عشرة وأربعمائة وصادره على مال زعم أنه ببغداد والكوفة فأحضره وترك سبيله فعاد إلى بغداد ووزر لشرف الدولة بن بويه بعد وزيره مؤيد الملك الرخجي وكان مداخلا لعنبر الخادم الملقب بالأثير المستولي على الدولة يومئذ‏.‏ ثم سخطه الأتراك وسخطوا الأبهر فأشار عليه بالخروج عن بغداد فخرج الوزير وأبو القاسم معه إلى السندية وبها قـرواش فأنزلهـم وسـاروا إلـى أوانـا‏.‏ وبعـث الأتـراك إلـى الأثيـر عنبـر بالاستعتاب فاستعتب ورجع وهرب أبو القاسم المغربي إلى قرواش سنة خمس عشرة لعشرة أشهـر مـن وزارتـه‏.‏ ثـم وقعـت فتنـة بالكوفـة كـان منشؤهـا مـن صهـره ابـن أبي طالب فأرسل الخليفة إلـى قـرواش فـي إبعـاده عنـه فأبعـده وسـار إلـى ابـن مـروان إلـى ديار بكر وهنالك يذكر بقية خبره‏.‏ ثم قبض معتمد الدولة قرواش على أبي القاسم سليمان بن فهر عامل الموصل له ولأبيه وكان مـن خبـره أنـه كـان يكتـب فـي حداثتـه بيـن يدي أبي إسحاق الصابي ثم اتصل بالمقلد بن المسيب وأصعد معه إلى الموصل واقتنى بها الضياع‏.‏ ثم استعمل قرواش على الجبابات فظلم أهلها حروب قرواش مع العرب وعساكر بغداد وفي سنة إحدى عشرة اجتمع العرب على فتن قرواش وسار إليه دبيس بن علي بن مزيد الأسدي وغريب بن معن وجاءهم العسكر من بغداد فقاتلوه عند سر من رأى ومعه رافع بن الحسين فانهزم ونهبت أثقاله وخزائنه وحصل في أسرهم وفتحوا تكريت عنوة من أعمالـه‏.‏ ورجعت عساكر بغداد إليها‏.‏ واستجار قرواش بغريب بن معن فأطلقه ولحق بسلطـان بـن الحسـن مـن عمـال أميـر خفاجـة وأتبعـه عسكـر مـن التـرك وقاتلهـم غربـي الفـرات وانهـزم هو وسلطـان وعـاث العسكـر فـي أعمالـه فبعـث إلـى بغـداد بمراجعـة الطاعـة وقبـل‏.‏ ثـم كانت الفتنة بينه وبيـن أبي أسد وخفاجة سنة سبع عشرة لأن خفاجه تعرضوا لأعماله بالسواد فسار إليهم من الموصـل وأميرهـم أبـو الفتيـان منيـع بـن حسـان فاستجـاش بدبيـس بـن علـي بـن مزيد فجاءه في قومه بني أسد وعسكر من بغداد والتقوا بظاهر الكوفة وهو يومئـذ لقـرواش فخـام قـرواش عـن لقائهـم وأجفل ليلاً للأنبار‏.‏ واتبعوه فرحل عنها إلى حلله واستولى القوم على الأنبار وملكوها‏.‏ ثم فارقوها وافترقوا فاستعادها قرواش‏.‏ ثـم كانـت الحـرب بينـه وبيـن عقيـل فـي هـذه السنـة وكـان سببهـا أن عنبـر الخـادم حاكـم دولة بني بويه انتقض عليه الجند وخافهم على نفسه فلحق بقرواش فجاء قرواش وأخذ له إقطاعه وأملاكه بالقيروان فجمع مجد الدولة بن قراد ورافع بن الحسين جمعاً كبيراً من بني عقيل وانضم إليهم بـدران أخو قرواش وساروا لحربه‏.‏ وقد اجتمع هو وغريب بن معن والأثير عنبر وأمدهم ابن مـروان فكانـوا فـي ثلاثـة عشـر ألفـا والتقـوا عنـد بلدهم فلما تصافوا والتحم القتال خرج بدران بن المقلـد إلى أخيه قرواش فصالحه وسط المصاف وفعل ثوران بن قراد كذلك مع غريب بن معن فتوادعوا جميعاً واصطلحوا‏.‏ وأعاد قرواش إلى أخيه بدران مدينة الموصل‏.‏ ثم وقعت الحرب بين قرواش وبين خفاجة ثانياً وكان سببها أن منيع بن حسان أمير خفاجه وصاحـب الكوفـة سـار إلـى الجامعيـن بلـد دبيـس ونهبهـا فخـرج دبيس في طلبه إلى الكوفة فقصد الأنبـار ونهبهـا هـو وقومـه فسـار قـرواش إليهم ومعه غريب بن معن الأنبار‏.‏ ثم مضى في أتباعهم إلى القصر فخالفوه إلى الأنبار ونهبوها وأحرقوها‏.‏ واجتمع قرواش ودبيس في عشرة آلاف وخاموا عن لقاء خفاجه فلم يكن من قرواش إلا بناء السور على الأنبار‏.‏ ثم سار منيع بن حسان الخفاجي إلى الملك كليجار والتزم الطاعة وخطب له بالكوفة وأزال حكم بني عقيل عـن سقـي الفـرات‏.‏ ثـم سـار بـدران بن المقلد في جموع من العرب إلى نصيبين وحاصرها وهي لنصيـر الدولـة بـن مـروان فجهـز لهـم الجنـد وبعثهـم إليهـا فقاتلـوا بدران فانهزم أولا‏.‏ ثم عطف عليهم فانهزموا وأثخن فيهم وبلغه الخبر أن أخاه قرواش قد وصل إلى الموصل فأجفل خوفاً منه‏.‏ كـان هـؤلاء الغـز مـن شعـوب التـرك بمفـازة بخارى وكثر فسادهم في جهاتها فأجاز إليهم محمود بن سبكتكين وهرب صاحب بخارى وحضر عنده أميرهم أرسلـان بـن سلجـوق فقبـض عليـه وحبسـه بالهنـد ونهـب أحياءهـم وقتـل كثيـراً منهـم فهربـوا إلـى خراسان وأفسدوا ونهبوا فبعث إليهم العساكر فأثخنوا فيهم وأجلوهم عن خراسان‏.‏ ولحق كثيـر منهـم بأصبهـان وقاتلـوا صاحبهـا وذلـك سنة عشرين وأربعمائة‏.‏ ثم افترقوا فسارت طائفة منهم إلى جبل بكجار عند خوارزم ولحقـت طائفـة أخـرى بأذربيجان وأميرها يومئذ وهشوذان فأكرمهم ووصلهم ليكفوا عن فسادهم فلم يفعلوا‏.‏ وكان مقدموهم أربعة‏:‏ توقا وكوكناش ومنصور ودانا فدخلوا مراغة سنة تسع وعشرين ونهبوها وأثخنوا في الأكراد الهدبانية وسارت طائفة منهم إلى الري فحاصروها وأميرهـا عـلاء الديـن بـن كاكويـه واقتحمـوا عليـه البلد وأفحشوا في النهب والقتل وفعلوا كذلك في الكرخ وقزوين‏.‏ ثـم سـاروا إلـى أرمينيـة وعاثـوا فـي نواحيهـا وفـي أكرادهـا‏.‏ ثـم عاثـوا في الدينور سنة ثلاثين‏.‏ ثم أوقع وهشوذان صاحب تبريز لجماعة منهم في بلده وكانوا ثلاثين ومقدمهم فضعف الباقون وأكثر فيهم القتل‏.‏ واجتمع الغز الذين بأرمينية وساروا نحو بلاد الأكراد الهكارية من أعمال الموصل فأثخنوا فيهم وعاثوا في البلاد‏.‏ ثم كر عليهم الأكراد فنالوا منهم وافترقوا في الجبال وتمزقوا‏.‏ وبلغهم مسير نيال أخي السلطان طغرلبك وهم في الري وكانوا شاردين منه فأجفلوا من الري وقصدوا ديار بكر والموصل سنة ثلاث وثلاثين‏.‏ ونزلوا جزيرة ابن عمر ونهبوا باقردى وبازندى والحسنية‏.‏ وغدر سليمان بن نصير الدولة بن مروان بأمير منهم وهو منصور بن عزعنيل فقبض عليه وحبسه وافترق أصحابه في كل جهة‏.‏ وبعث نصير الدولة بن مروان عسكراً في أتباعهم وأمدهم قرواش صاحب الموصل بعسكر آخر وانضم إليهم الأكراد البثنوية أصحاب فتك فأدركوهم فاستمات الغز وقاتلوهم‏.‏ ثم تحاجزوا وتوجهت العرب إلى العراق للمشتى وأخربت الغز ديار بكر ودخل قرواش الموصل ليدفعهم عنها لما بلغه أن طائفة منهم قصـدوا بلـده‏.‏ فلمـا نزلـوا برقعيـد عـزم علـى الإغـارة عليهم فتقدموا إليه فرجع إلى مصانعتهم بالمال على ما شرطوه‏.‏ وبينما هو يجمع لهم المال وصلوا إلى الموصل فخرج قرواش في عسكره وقاتلهم عامة يومه‏.‏ وعادوا للقتال من الغد فانهزمت العرب وأهل البلد وركب قرواش سفينة في الفرات وخلف جميـع مالـه‏.‏ ودخـل الغـز البلـد ونهبـوا ما لا يحصى من المال والجوهر والحلى والأثاث‏.‏ ونجا قرواش إلى السند وبعث إلى الملك جلال الدولة يستنجده وإلى دبيس علي بن مزيد وأمراء العرب والأكراد يستمدهم‏.‏ وأفحش الغز في أهل الموصل قتلاً ونهباً وعيثاً في الحرم‏.‏ وصانع بعض وفرضـوا علـى أهـل المدينـة عشريـن ألـف دينـار فقبضوها ثم فرضوا أربعة آلاف أخر وشرعوا في تحصيلها فثار بهم أهل الموصل وقتلوا من وجدوا منهم في البلد‏.‏ ولما سمع أخوانهم اجتمعوا ودخلـوا البلد عنوة منتصف سنة خمس وثلاثين ووضعوا السيف في الناس واستباحوها اثني عشر يوماً وانسدت الطرق من كثرة القتلى حتى واروهم جماعات في الحفائر‏.‏ وطلبوا الخطبة للخليفة ثم لطغرلبك وطال مقامهم بالبلد فكتب الملك جلال الدولة بن بويه ونصير الدولة بن مروان إلى السلطان طغرلبك يشكون أمنهم فكتب إلى جلال الدولة معتذراً بأنهم كانوا عبيداً وخدماً لنا فأفسدوا في جهات الري فخافوا على أنفسهم وشردوا‏.‏ ويعده بأنه يبعث العساكر إليهـم وكتـب إلـى نصيـر الدولـة بن مروان يقول له‏:‏ بلغني أن عبيدنا قصدوا بلادك فصانعتهم بالمال وأنـت صاحـب ثغـور ينبغـي أن تعطـي مـا تستعيـن به على الجهاد ويعده أنه يرسل من يدفعهم عن بلاده‏.‏ ثم سار دبيس بن مزيد إلى قرواش مدداً واجتمعت إليه بنو عقيل وساروا من السن إلى الموصل فتأخر الغز إلى تل أعفر وأرسلوا إلى أصحابهم بديار بكر ومقدمتهم ناصفلي وبوقا فوصلـوا إليهم وتزاحفوا مع قرواش في رمضان سنة خمس وثلاثين فقاتلوهم إلى الظهر وكشفوا العـرب عـن حللهـم‏.‏ ثـم استماتـت العـرب فانهزمـت الغـز وأخذهـم السيف‏.‏ ونهب العرب أحياءهم وبعثوا برؤوس القتلى إلى بغداد واتبعهم قرواش إلى نصيبين ورجع عنهم‏.‏ وقصدوا ديار بكر فنهبوها‏.‏ ثم أرزن الروم كذلك ثم أذربيجان ورجع قرواش إلى الموصل‏.‏

  استيلاء بدران بن المقلد على نصيبين

قد تقدم لنا محاصرة بحران نصيبين ورحيله عنها من أخيه قرواش‏.‏ ثم اصطلحا بعد ذلك واتفقـا وتـزوج نصيـر الدولـة ابنـة قـرواش فلـم يعـدل بينهـا وبيـن نسائـه وشكـت إلـى أبيها فبعث عنها‏.‏ ثـم هـرب بعـض عمـال ابـن مـروان إلـى قـرواش وأطمعـه فـي الجزيـرة فتعلل عليه قرواش بصداق ابنته وهو عشرون ألف دينار‏.‏ وطلب الجزيرة ونصيبين لأخيه بدران فامتنع ابن مروان من ذلك فبعث قرواش جيشاً لحصار الجزيرة وآخر مع أخيه بدران لحصـار نصيبين‏.‏ ثم جاء بنفسه وحاصرها مع أخيه وامتنعت عليه‏.‏ وتسللت العرب والأكراد إلى نصير الدولة بن مروان بميافارقين‏.‏ وطلب منه نصيبين فسلمها إليه وأعطى قرواش من صـداق ابنتـه خمسـة عشـر ألـف دينـار‏.‏ وكـان ملـك ابـن مـروان فـي دقوقـا فزحـف إليـه أبـو الشوك من أمـراء الأكـراد فحاصـره بهـا وأخذهـا مـن يـده عنـوة وعفـا عـن أصحابـه‏.‏ ثـم توفـي بدران سنة خمس وعشرين وجاء ابنه عمر إلى قرواش فأقره على ولاية نصيبين وكان بنو نمير قد طمعوا فيها وحاصروه فسار إليهم ودافعهم عنها‏.‏ كانت تكريت لأبي المسيب رافع بن الحسين من بني عقيل فجمع غريب جمعاً من العـرب والأكـراد وأمـده جلـال الدولـة بعسكر وسار إلى تكريت فحاصرها‏.‏ وكان رافع بن الحسين عند قرواش بالموصل فسار لنصره بالعساكر ولقيه غريب في نواحي تكريت فانهزم واتبعه قرواش ورافع ولم يتعرضوا لمحلته وماله‏.‏ ثم تراسلوا واصطلحوا‏.‏

  فتنة قرواش وجلال الدولة وصلحهما

كـان قـرواش قـد بعـث عسكره سنة إحدى وثلاثين لحصار خميس بن ثعلب بتكريت واستجار خميس بجلال الدولة فبعث إليه بالكف عنه فلم يفعل فسار بنفسه يحاصره وكتب إلى الأتراك ببغداد يستفسدهم عن جلال الدولة‏.‏ وسار جلال الدولة إلى الأنبار فامتنعت عليه‏.‏ وسار قـرواش للقائـه وأعوزت عساكر جلال الدولة الأقوات‏.‏ ثم اختلفت عقيل على قرواش وبعث إلى جلال الدولة بمعاودة الطاعة فتحالفا وعاد كل إلى بلده‏.‏

  أخبار ملوك القسطنطينية

لهذه العصور كـان بسيـل وقسطنطيـن قـد تـزوج أبوهمـا أمهمـا فـي يـوم عيـد ركـب إلـى الكنيسة فرآها في النظارة فشغف بها‏.‏ وكان أبوها من أكابر الروم فخطبها منه وتزوجها وولدت الولدين ومات أبوهما وهما صغيران‏.‏ وتزوجت بعده بمدة نقفـور وملـك وتصـرف وأراد أن يجـب ولديهـا‏.‏ وأغـرت الدمستـق بقتله لقتله وتزوجت به‏.‏ وأقامت معه سنة ثم خافها وأخرجها بولديها إلى دير بعيد فأقامـت فيـه سنـة أخـرى‏.‏ ثـم دسـت إلـى بعـض الرهبـان ليقتـل الدمستـق فأقـام بكنيسـة الملـك يتحيل لذلـك حتـى جـاء الملك واستطعمه القربان في العيد من يده فدس له معه سماً ومات‏.‏ وجاءت هـي قبـل العيـد بليـال إلـى القسطنطينيـة فملـك ولدهـا بسيـل واستبـدت عليـه لصغـره‏.‏ فلمـا كبـر سار لقتال البلغار في بلادهم وبلغه وهو هنالك وفاتها فأمر خادماً له بتدبير الأمـر فـي غيبتـه بالقسطنطينية‏.‏ وأقام في قتال البلغار أربعين سنة‏.‏ ثـم انهـزم وعـاد إلـى القسطنطينيـة وتجهـز ثانيـة وعـاد إليهـم فظفـر بهم وقتل ملكهم وملك بلادهـم‏.‏ ونقـل أهلهـا إلـى بلـاد الـروم‏.‏ قـال ابـن الأثيـر‏:‏ وهـؤلاء البلغـار الذيـن ملـك بلادهم بسيل غير الطائفة المسلمة منهم وهؤلاء أقرب من أولئك إلى بلاد الروم بشهرين وكلاهما بلغار انتهى‏.‏ وكان بسيل عادلا حسن السيرة وملك على الروم نيفاً وسبعين سنة‏.‏ ولما مات الملك أخوه قسطنطين‏.‏ ثم مات وخلف بنات ثلاثاً فملكت الكبرى وتزوجت بأرمانوس من بيت ملكهم وهو الذي ملك الرها من المسلمين‏.‏ وكان له من قبل الملك رجل يخدمه من السوقة الصيارفة اسمـه ميخاييـل فاستخلصـه وحكمـه فـي دولتـه فمالـت زوجـة أرمانـوس إليـه‏.‏ وأعمـلا الحيلـة في قتل الملك أرمانوس فقتلاه خنقاً وتزوجته على كره من الروم‏.‏ ثم عرض لميخاييل هذا مرض شوه خلقته فعهد بالملك إلى ابن أخيه واسمه ميخاييل فملك بعده وقبض على أخوالـه وأخوتهـم وضرب الدنانير باسمه سنة ثلاثين وأربعمائة‏.‏ ثم أحضر زوجته بنت الملك وحملها على الرهبانية والخروج له عن الملك وضربها ونفاها إلى جزيرة في البحـر‏.‏ ثـم اعتـزم علـى قتـل البطـرك للراحـة مـن تحكمـه فأمـره بالخـروج إلـى الديـر لعمـل وليمـة يحضرها جنده وأرسل جماعة مـن الـروم وبلغـار لقتلـه فبـذل لهـم البطـرك مـالا علـى الإبقـاء ورجـع إلـى بيعتـه وحمـل الـروم علـى عـزل ميخاييـل فأرسـل إلى زوجته الملكة من الجزيرة التي نفاها إليها فلم تفعل وأقبلت علـى رهبانيتهـا فخلعهـا البطـرك مـن الملـك‏.‏ وملكـت أختهـا الصغيـرة بدرونة وأقاموا من خدم أبيها من يدبر ملكها وخلعوا ميخاييل وقاتل أشياعه أشياع بدرونة فظفر بهم أشياع بدرونة ونهبوهم وفزع الروم إلى التماس ملك يدبرهم وقارعوا بين المرشحين فخرجت القرعة على قسطنطين فملكوه وتزوجته الملكة الكبرى ونزلت لها الصغيرة عن الملك سنة أربع وثلاثين‏.‏ ثم خرج خارجي من الروم اسمه ميناس وكثر جمعه وبلغ عشرين ألفا‏.‏ وجهـز قسطنطيـن إليـه العساكـر فقتلوه وسيق رأسه إليه وافترق أصحابه ثم ورد على القسطنطينية سنة خمس وثلاثين مراكب للروم ووقعت منها محاورات نكرها الروم فحاربوهم وكانوا قد فارقوا مراكبهم إلى البر فأحرقوها وقتلوا الباقين‏.‏

  الوحشة بين قرواش والأكراد

كان للأكراد عدة حصون تجاور الموصل فمها للحميدية قلعـة العقـر ومـا إليهـا وصاحبهـا أبـو الحسن بن عكشان وللهدبانية قلعة إربل وأعمالها وصاحبها أبو الحسـن بـن موشـك ونازعـه أخوه أبو علي بن أربل فأخذها منه بإعانة ابن عكشان وأسر أخاه أبا الحسن‏.‏ وكان قرواش وأخـوه زعيـم الدولـة أبو كامل مشغولين بالعراق فنكرا ذلك لما بلغهما ورجعا إلى الموصل فطلب قرواش من الحميدي والهدباني النجدة على نصير الدولة بن مروان فجاء الحميدي بنفسه‏.‏ وبعث الهدباني أخاه وأصلح قرواش ونصير الدولة‏.‏ ثم قبض على عكشان وصالحه علـى إطلـاق أبـي الحسـن بـن موشـك وامتنـع أخـوه أبـو علي وكان عكشان عوناً عليه فأجاب ورهن في ذلـك ولـده ثـم أرسـل أبا علي في ذلك الأمر وحضر بالموصل ليسلم أربل إلى أخيه أبي الحسن وسلـم قـرواش إليـه قلاعـه‏.‏ وخـرج ابـن عكشـان وأبـو علـي ليسلمـا إربـل إلـى أبي الحسن بن موشك فغدرا به وقبضا على أصحابه وهرب هو إلى الموصل وتأكدت الوحشة بينهما وبين قرواش‏.‏ خلع قرواش بأخيه أبي كامل ثم عوده ثم وقعت الفتنة بين معتمد الدولة وقرواش وأخيه زعيم الدولة أبي كامل وكـان سببهـا أن قريشاً ابن أخيهما بدران فتن عمه أبا كامل وجمع عليه الجموع وأعانه عمه الآخر‏.‏ واستمد قـرواش بنصيـر الدولـة بـن مـروان فبعـث إليـه بابنـه سليمـان‏.‏ وأمـده الحسـن بن عكشان وغيرهما من الأكراد وساروا إلى معلابا فنهبوها وأحرقوها‏.‏ ثم اقتتلوا في المحرم سنة إحدى وأربعين يوماً وثانيـاً ووقفـت الأكـراد ناحيـة عـن المصاف ولم يغشوا المجال‏.‏ وتسلل عن قرواش بعض جموعه من العرب إلى أخيه وبلغه أن شيعة أخيه أبي كامل بالأنبار وثبوا فيها وملكوها فضعـف أمـره وأحس من نفسه الظهور عليه‏.‏ ولم يبرح فركب أخوه أبو كامل وقصد حلته فركب قرواش للقائه وجاء به أبو كامل لحلته‏.‏ ثم بعث به إلى الموصل ووكل به وملك أبو كامل الموصـل واشتط العرب عليه فخاف العجز والفضيحة أن يراجعوا طاعة أخيه فسبقهم إليها وأعاده إلى ملكـه وبايعـه علـى الطاعـة ورجـع إلـى ملكـه‏.‏ وكـان أبو كامل قد أحدث الفتنة بين الباسيري كافل الخلافة ببغداد وملك الأمراء بها لما فعله بنو عقيل في عراق العجم من التعرض لإقطاعه فسـار‏.‏ إليهـم الساسيـدي وجمـع أبـو كامـل بـن عقيل ولقيه فاقتتلوا قتالاً شديداً‏.‏ ثم حاجزوا فلما رجـع قـرواش إلـى مكة نزع جماعة من أهل الأنبار إلى البساسيري شاكرين سيرة قرواش وطلبوا أن يبعث معهم عسكراً وعاملا إلى بلدهم ففعل ذلك وملكها من يد قرواش وأظهر فيهم العدل‏.‏

  خلع قرواش ثانية واعتقاله

كان قرواش لما أطاعه أخو أبو كامل بقي معه كالوزير يتصرف إلا أن قرواش أنف من ذلك وأعمـل الحيلـة فـي التخلـص منـه فخـرج من الموصل سائراً إلى بغداد‏.‏ وشق ذلك على أخيه أبي كامل فأرسل إليه أعيان قومه ليردوه طوعاً أو كرهاً فلاطفوه أولاً وشعر منهم بالدخيلة فأجاب إلـى العـود وشرط سكنى دار الإمارة‏.‏ فلما جاء إلى أبي كامل قام بمبرته وإكرامه ووكل به من يمعنه التصرف‏.‏

  وفاة أبي كامل وولاية قريش بن بدران

لما ملك قريش بن بدران وحبس عمه بقلعة الجراحية ارتحل يطلب العراق سنة أربع وأربعين فانتقض عليه أخوه المقلد وسار إلى نور الدولة دبيس بن مزيد فنهب قريش حلله وعاد إلى الموصل‏.‏ واختلف العرب عليه ونهب عمال الملك الرحيم ما كان لقريش بنواحي العراق‏.‏ ثم استمال قريش العرب عليه ونهب عمال الملك الرحيم مـا كـان لقريـش بـن المسيـب صاحـب الحظيرة خالفا عليه‏.‏ وبعث قريش بعض أصحابه فلقيهم وأوقع بهم فسار إليه قريش ولقيه فهزمه واتبعه إلى حلل بلاد ابن غريب ونهبها ودخل العراق‏.‏ وبعث إلى عمال الملك الرحيم بالطاعة وضمان ما كان عليه في أعماله فأجابوه إلى ذلك لشغل الملك الرحيـم بخوزستـان فاستقر أمره وقوي‏.‏ وفاة قـرواش‏:‏ وفي سنة أربـع وأربعيـن هـذه توفـي معتمـد الدولـة أبـو منيـع قـرواش المقلـد بمحبسـه فـي قلعة الجراحية وحمل إلى الموصل ودفن بها ببلد نينوى شرقيها وكان من رجال العرب‏.‏

  استيلاء قريش على الأنبار

وفي سنة سـت وأربعيـن زحـف قريـش بن بدران من الموصل ففتح مدينة الأنبار وملكها من يد عمال البساسيري‏.‏ وسار البساسيري إلى الأنبار فاستعادها‏.‏ حرب قريش بن بدران والبساسيري ثم اتفاقهما وخطبة قريش لصاحب مصر كان قريش بن بدران قد بعث بطاعته إلى طغرلبك وهو بالري وخطب له بجميـع أعمالـه وقبض على الملك الرحيم‏.‏ وكان قريش معه فنهب معسكره واختفى وسمع به السلطان فأمنه ووصل إليه فأكرمه ورده إلى عمله‏.‏ وكان البساسيري قد فارق الملك الرحيم عند مسيره من واسط إلى بغداد ومسير طغرلبك من حلوان‏.‏ وقصد نور الدولة دبيس بن مزيد للمصاهرة بينهمـا‏.‏ وكـان سبـب مفارقـة البساسيـري للملـك الرحيـم كتـاب القائـم لـه بإبعاده لإطلاعه على كتابه إلـى خليفـة مصـر فلمـا وصـل قريـش بن بدران إلى بغداد وعظم استيلاء السلطان طغرلبك على الدولـة بعـث جيشـا وزحـف البساسيـري للقائهـم ومعـه نـور الدولـة دبيس فالتقوا بسنجار فانهـزم قريش وقطلمش وأصحابهما وقتل كثير منهم‏.‏ وعاث أهل سنجار فيهم وسار بهم إلى الموصل وخطب بها للمستنصر خليفة مصر وقد كانوا بعثوا إليه بطاعتهم من قبل فبعث إليهم بالخلع ولقريش جملتهم‏.‏

  استيلاء طغرلبك على الموصل وولاية أخيه نيال عليها ومعاودة قريش الطاعة

كان السلطان طغرلبك لما طال مقامه ببغداد ساء أثر عساكره في الرعايا فبعث القائم وزيره رئيس الرؤساء أن يحضر عميد الملك الكندري وزير طغرلبك ويعظه في ذلك ويهدده برحيل القائم عن بغداد فبلغه خلال ذلك شأن الموصل فرحل إليها وحاصر تكريت ففتحها وقبل من صاحبهـا نصـر بـن عيسـى مـن بنـي عقيـل مـا لا بـد لـه منـه‏.‏ ورحل عنه فمات نصر وولي بعده أبو الغنائم بن البحلبان فأصلح حاله مع رئيس الرؤساء ورحل السلطان من البواريح وكان في انتظـار أخيـه ياقوتـي بـن تنكيـر‏.‏ ثـم توجه السلطان إلى نصيبين وبعث هزارسب إلى البرية لقتال العـرب وفيهـم قريـش ودبيس وأصحاب حران والرقة من نمير فأوقع بهم ونال منهم وأسر جماعة فقتلهم‏.‏ وعـاد إلـى السلطـان طغرلبـك فبعـث إليـه قريـش ودبيـس بطاعتهمـا وأن يتوسـط لهما عند السلطان فعفا السلطان عنهما وقال البساسيري‏:‏ ردهما إلى الخليفة فيرى ما عندهما‏.‏ فرحل البساسيري عند ذلك إلى الرحبة وتبعه أتراك بغداد ومقبل بن المقلد وجماعة من بني عقيل‏.‏ وبعث السلطان إلى قريش ودبيس هزارسب بن تنكير ليقضي ما عندهما ويحضرهما وكان ذلك بطلبهما‏.‏ ثم خافا على أنفسهما فبعث قريش أبا السيد هبة الله بن جعفر ودبيس ابنه بهاء الدولة منصوراً فقبلهما السلطان وكتب لهما بأعمالهما‏.‏ وكان لقريش من الأعمال‏:‏ الموصل ونصيبيـن وتكريـت وأوانـا ونهـر بيطـر وهيـت والأنبار وبادرونا ونهر الملك‏.‏ ثم قصد السلطان ديار بكر ووصل إليه أخوه إبراهيم نيال وأرسل هزارسـب إلـى قريـش ودبيـس يحذرهمـا منـه‏.‏ وسار لسنجار لأجل واقعته مع قريش ودبيس فبعث العساكر إليها واستباحهم وقتل أميرها علي بن مرحا وخلق كثير من أهلها رجالاً ونساء وشفع إبراهيم نيال في الباقين فكف عنهم وأقطـع سنجـار والموصـل وتلـك الأعمـال كلهـا لأخيه إبراهيم نيال وعاد إلى بغداد فدخلها في ذي القعدة سنة تسع وأربعين‏.‏ مقارنة نيال الموصل وما كان لقريش فيها وفي بغداد مع البساسيري وحبسهما القائم وفي سنة خمسين وأربعمائة خرج إبراهيم نيال من الموصل إلى بلاد الروم فخشي طغرلبك أن يكون منتقضاً وبادر بكتابه وكتاب الخليفة إليه فرجع وخرج الوزير الكندري للقائه‏.‏ وخالفه البساسيـري وقريـش إلى الموصل فملكها وحاصر القلعة حتى استأمن أهلها على يد ابن موسك وصاحـب أربـد فأمناهـم وهدمـا القلعـة‏.‏ وسـار السلطـان طغرلبـك من وقته إلى الموصل ففارقها واتبعها إلى نصيبين ففارقه أخوه نيال في رمضان سنة خمسيـن‏.‏ وسـار السلطـان طغرلبك في أثره وحاصره بهمذان وجاء البساسيري إلى بغداد‏.‏ وكان هزارسـت بواسـط ودبيس ببغداد قد استدعاه الخليفة للدفاع فسئم المقام ورجع إلى بلده‏.‏ وجاء البساسيري وقريش ووزير بني بويه أبو الحسن بن عبد الرحيم ونزلوا بجوانب بغداد ونزل عميد العراق بالعسكر قيالة البساسيري ورئيس الرؤساء وزير الخليفة قبالة الآخرين‏.‏ وخطب البساسيري للمستنصر صاحب مصر بجوامع بغداد وأذن بحي على خير العمـل ثـم إستعجل رئيس الرؤساء الحرب فاستنجده القوم ثم كروا عليه فهزموه واقتحموا حريم الخلافة وملكوا القصور بما فيها وركب الخليفة فوجد عميد العراق قد إستأمن إلى قريش بن بحران فاستأمن هو كذلك وأمنهما قريش وأعادهما وعذله البساسيري في الإنفراد بذلك عونه وقد تعاهدا على خلاف ذلك فاستعتب لـه بالوزيـر رئيـس الرؤسـاء ودفعـه إليـه‏.‏ وأقـام الخليفـة والعميـد عنـده فقتـل البساسيـري الوزير ابن عبد الرحيم وبعث قريش بالخليفة القائم مع ابن عمه مهارش بن نجلي إلى حديثة عانة فأنزله بها مع أهله وحرمه وحاشيته حتى إذا فرغ السلطان طغرلبـك مـن أمـر أخيـه نيـال وقتلـه ورجـع إلـى بغـداد بعـث البساسيري وقريش في إعادة القائم إلى داره فامتنع وأجفل عن بغداد في ذي القعدة سنة إحدى وخمسين وشمـل النهـب مدينـة بغـداد وضواحيهـا مـن بنـي شيبـان وغيرهم وبعث السلطان طغرلبك الإمام أبا بكـر محمـد بـن فـورك إلـى قريش ابن بدران يشكره على فعله بالخليفة وبابنة أخته زوجة الخليفة أرسلـان خاتون وأنه بعث ابن فورك لإحضارهما وكثب قريش إلى مهارش ابن عمه بأن يلحق بـه هـو والخليفـة فـي البريـة فأبى وسار الخليفة إلى العراق وجعل طريقه على الري ومر ببدر ابن مهلهل فخدم القائم وخرج السلطان للقاء الخليفـة وقـدم إليـه الأمـوال والآلـات وعرضـه أربـاب الوظائـف ولقيـه بالنهـروان وجـاء معـه إلـى قصـره كمـا تقدم في أخباره‏.‏ وبعث السلطان خبارتكين الطغرائي في العساكر لإتباع البساسيري والعرب وجاء إلـى الكوفـة واستصحـب سرايـا ابن منيع ببني خفاجة وسار السلطان في أثرهم وصبحت السرية البساسيري في حلة دبيس بن يزيد فنهبوها وفر دبيس وقاتل البساسيري وأصحابه فقتل في المعركة‏.‏